الجو الذي يعيشه المغرب هذه الأيام شبيه بالجو السائد في بداية الألفية الثالثة، حين تقدم الأستاذ سعيد السعدي "بالخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية" الجريئة، التي كانت ستنقل المرأة المغربية ملايين السنوات الضوئية إلى الأمام بسبب الجرأة التي امتلكها معدها في ذلك الوقت، ولكن مع وجود الفارق بين الجو السياسي السائد آنذاك واختلاف مواقع المتصارعين اليوم في جوقة السلطة. استطاعت تلك الخطة خلق الحدث وشغل حيز كبير من النقاشات التي شهدها مغرب تحول من ملك إلى ملك في ظرف انفتاح غير مسبوق، كان عماده صحافة مستقلة مزدهرة، وحكومة آمن الجميع بأنها ستفتح باب التناوب السياسي الحقيقي فعلا؛ كان النقاش في الموعد وكانت العواطف وكان العراك وكان التخوين والتهويل نتيجة الاستقطاب الحاد بين من يعدون أنفسهم علمانيين يدعون إلى التحرر الكامل من سلطة الدين والممارسات الرجعية، وبين تيار، يعتبر نفسه إسلامياً، جعل الدفاع عن حمى القيم التي "بُنِيَ" عليها المجتمع المغربي مهمته الأساسية. وقد نجح التيار الثاني بالفعل في احتواء النقاش حول الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية، بل وتسبب في الاستغناء عن الوزير صاحب الخطة؛ إذ تم التخلص منه في أول تعديل وزاري خضعت له حكومة الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي دون أن يلقى أي مساندة من حزبه ولا من حكومة الاشتراكيين. ولكن رغم ذلك، استطاع الاستاذ سعيد السعدي تحريك المياه الراكدة وخلق نقاش مجتمعي أدى إلى حصول توافقات تمخضت عنها في النهاية قرارات حسنت وضع المرأة في المجتمع المغربي، قانونيّاً على الأقل، بفضل مدونة الأسرة التي أخذت سنوات لتتبلور. النقاش الذي دار حول حقوق المرأة والذي يدور الآن حول الحريات الفردية أو الثورة الجنسية صحي ويدل على حركية ودينامية المجتمع المغربي الذي تتعايش فيه تيارات واتجاهات فكرية تنهل من مشارب فكرية مختلفة، ومتناقضة أحيانا، تعكس الغنى الفكري الذي يمور به هذا المجتمع والذي يشكل مصدر الأمل في المغرب الممكن بفضل النضال والعمل الحقوقي المستميت والجدي. فخلق النقاش وإثارة القضايا الشائكة يساهمان بلا شك في خلق التدافع الفكري الذي يسمح بإنضاج التصورات وتزويد الفضاء العمومي بخلاصات قد لا تكون شعبيةً ولا يتفق عليها الجميع، إلا أنها تساهم بلا شك في توفير الظروف الملائمة لتوافق بين القوى الفاعلة في المجتمع حول القضايا الاشكالية.
لنعد قليلاً إلى أصل النقاش الذي بدأ عندما أدلى رئيس تحرير جريدة يومية مغربية لقناة الميادين الفضائية بتصريح مطول، تعليقا على الندوة التي عقدتها الجمعية المغربية لحقوق الانسان بالرباط في السادس عشر من شهر حزيران/يونيو تحت عنوان "الحريات ودور الحركة الحقوقية في المغرب"، أكد فيه على حق المغاربة في "ممارسة الحب" وعدم تجريم الممارسات الجنسية خارج إطار الزواج، ودعا بالمناسبة إلى إلغاء الفصل 490 من القانون الجنائي المغربي الذي "يجرم الحب" في نظره بتجريمه للعلاقات الجنسية خارج إطار الزواج. هنا انتهى كلام الصحافي الذي لا يحظى بشعبية كبيرة في البلاد إلا أن أحد الشيوخ المعروفين بنشاطهم على اليوتوبألقى درساً في بيت خاص، على الأرجح بيت أحد أصدقائه، وعلق فيه على كلام الصحافي وقرأ فيه دياتة واضحة؛ استرسل الفقيه في رأيه واستشهد بكلام مأثور، لا هو بقرآن ولا بحديث، اِتفق العلماء على أنه ليس من الأحاديث النبوية على حد قول الدكتور محمد المغراوي، وطفق يبين ما ظنه حكماً شرعياً في الديوت الذي لا غيرة له. ونظراً لأن المواقع الالكترونية والصحف تبحث عن السبق والإثارة فإن المسألة انتقلت من دفاع الصحافي المعني عن حق المغاربة بالتصرف في حياتهم الجنسية كما يشاؤون، لتتحول بقدرة قادر إلى ارتضائه ممارسة البغاء لأمه وأخواته رغم أن جوابه للصحافية، عندما سألته إن كان يقبل بأن تمارس أمه وأخواته الحرية الجنسية التي يدعو إليها، لم يكن صريحاً بهذا الشكل. أما في الجانب الآخر فقد تم تحريف كلام "شيخ اليوتوب"—استعمل شيخ اليوتوب هنا دون أية نية قدحية وحتى لا أشير إليه بالاسم—من الحديث عن حكم شرعي قابل للنقد إلى إهدار دم الصحافي رغم أنه لم يقل ذلك صراحة على الأقل عند فهمنا الظاهر للغة العربية. لا ما نسب إلى الصحافي صحيح ولا الكلام المنسوب إلى "شيخ اليوتوب" دقيق أو على الأقل لا توجد فيه دعوة واضحة وصريحة للقتل كما يُشاع. مسألة هذه الخصومة بيد القضاء ليفصل فيها بين المتخاصمين ولكن الذي يهمنا نحن هو النقاش حول الحرية الجنسية للمغاربة وعلاقتها بتحرر المجتمع من السيطرة والأبيسية والاستبداد الذي يفرض تصوره على الفكر من خلال الجسد.
ولابد من الإشارة إلى أن هذا النقاش ليس جديداً ولا يعكس تطورا مدهشا لأن مطلب الحرية الجنسية ظهر كمطلب للحركات اليسارية الراديكالية في أواخر الستينيات والسبعينيات حيث عاش الشبان والشابات المغاربة الثورة الجنسية التي عاشتها البلدان الغربية في تلك المرحلة بعد وقبل أحداث مايو 1968 بفرنسا وخروج 40.000 من الهبيين الأمريكيين إلى Golden Gate Park, San Francisco منادين ب "السلام والحب". الشباب المغاربة في ذلك الوقت عاشوا هذه الثورة بطريقتهم الخاصة باعتبارها ركناً أساسياً للتمرد السياسي والاجتماعي الذي كانوا يتوقون إليه. كما أن الباحثة الاجتماعية سمية نعمان جسوس كانت من أوئل من اقتحموا فضاء الحديث عن الجنس هذا بكتابها Au-dela de toute pudeur الذي فككت فيه فكرة الحشمة وعلاقات السلطة والتحكم بحسد المرأة، ويعتبر من أكثر الكتب مبيعاً في تاريخ المغرب، بل ودعت من خلاله إلى إنهاء الإزدواجية التي يعيشها المجتمع المغربي عندما يتعلق الأمر بالحياة الجنسية. أما الجمعية المغربية لحقوق، المعقل الحقوقي لليساريين المغاربة، فقد عبرت عن مطلب إلغاء هذا الفصل 490 من القانون الجنائي لأنه يتناقض مع ثقافة حقوق الانسان ونظراً لعدم تقديمه الضمانات الكافية لحماية الحقوق الفردية من الانتهاك، كما أن الجمعية، وانسجاماً مع نفسها عندما تدافع عن حقوق الانسان ككل لايتجزأ وبدون انتقائية، لم تتورع في إعلان موقفها هذا جهاراً وعلى رؤوس الأشهاد وبجرأة نادرة. الجديد هذه المرة هو انتقال النقاش إلى الفضاء العمومي بشراسة غير مسبوقة بسبب محاولات التوظيف السياسي لخلاف بين تصوريْن متناقضيْن جوهرياً لتصفية حسابات سياسية بين خصوم سياسيين آخر ما يهمهم هو الليبرالية وحقوق الإنسان والأمن الاجتماعي الذي يتشدقون به. هذا الوضع يستدعي الحرص التحلي بالموضوعية دون إغفال الجوانب المسكوت عنها في هذا الجدل. فتمترس الأطرف في خنادقها دون أن يحدث تواصل بينها والتناقض الجوهري في مشاربهما السياسية والفكرية لا يزيد النقاش إلا سخونة واستقطاباً في بلد يعيش نوعاً من التسامح مع الممارسة الجنسية خارج إطار الزواج إذا قورن ببقية البلدان التي تشترك معه في المحيط الثقافي والبيئة الدينية. فالمتتبع للمشهد السياسي يرى أن الأدوار قد انقلبت؛ فالفئة التي كانت في الحكم زمن اقتراح الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية (الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية) أصبحت في المعارضة، والتي كانت في المعارضة(العدالة والتنمية الاسلامي) أصبحت في الحكم. مما يذكي حدة الصراع ويجرده من طابعه الحقوقي ليلفله لفاً بغطاء سياسي حيث تجوز كل الضربات .
الحقيقة البادية للعيان في المغرب هي أن هناك تطبيعاً تدريجياً وذكياً مع الجنس؛ فليس مفاجئاً أن تتوصل دراسة نشرتها مجلة "دير شبيعل" الألمانية في العشرين من أكتوبر سنة 2006 إلى خلاصة مفادها أن "شباناً وشابات مسلمين على وشك القيام بثورة جنسية حقيقية في بلدانهم" وذكرت المغرب ومصر ولبنان كحالات مثيرة للاهتمام في هذا المجال. الذين يعرفون المقررات الدراسة المغربية يدركون أن الدروس الأولى عن التوالد وموانع الحمل تدرس في السنة السادسة أساسي على الأقل حتى حدود سنة 2009. ففي هذه السن المبكرة (11/12 تقريباً) يتم تعريض الطلاب إلى صور ومفاهيم ترتبط بالتوالد وعمل الاجهزة التناسلية وطرق الوقاية من الأمراض المنقولة جنسياً. عادة ما يتم تصدير هذه الدروس بآيات من القرآن تتحدث عن التوالد لتخفيف حجم الخجل الذي يشعر به الطلاب عند تناولهم لهذه المواضيع في هذه السن المبكرة، أو ربما لشرعنة الحديث عنها في الصفوف. ومن الجدير بالذكر أيضاً أن هذا الأمر بدأ منذ بداية سنوات التسعينيات في المدرسة الابتدائية (طبيعي دراسة هذه المواضيع في صفوف علم الأحياء في الإعدادي والثانوي) ولا شك أنه أدخل مفاهيم كثيرة عن التربية الجنسية إلى أفئدة التلاميذ والتلميذات في مختلف المستويات التعليمية مما يشكل مكبساً للمجتمع. لذلك يمكن أن نزعم أن هناك تطبيعاً مع الثقافة الجنسية على المستوى التربوي على الأقل.
هذا التطبيع يعبر عن نفسه في اللغة اليومية أيضا إذ أن اللغة الدارجة المغربية تشربت مفردات من قبيل "الجورب/التقاشر/الكابوت" والتي تحيل إلى شيء واحد هو العازل الطبي الذي بدوره يعبر بشكل غير مباشر عن وجود وعي بضرورة الحماية من الأمراض والممارسات الجنسية مع الأشخاص الذين يمكن أن يكون عندهم أكثر من شريك جنسي. أما البعد الآخر لهذا التطبيع مع الجنس فيتجلى في انتشار حبوب منع الحمل في المدن والأرياف وتوزيعها مجاناً على النساء المتزوجات والمطلقات من طرف وزارة الصحة بهدف تنظيم الأسرة ولكن أيضاً للحماية من الحمل غير المرغوب فيه خاصة من العلاقات الجنسية بين غير المتزوجين؛ فعندما يقع حمل لامرأة غير متزوجة غالباً ما يقال "كأنه ليس هناك وسائل للحماية" أو "يا لها من جاهلة لم تحم نفسها" مما يعني ضمناً أن الجنس خارج إطار الزواج شيء غير صادم لكن مع نزوع إلى التستر والوقاية من عواقبه الصحية والاجتماعية. لنلاحظ هنا أن اللوم يقع على المرأة وليس على الرجل وهذا في حد ذاته خلل! الأمر الأخير الذي يستحق الذكر أيضاً هو نشاط العديد من الجمعيات التنموية في مناطق مختلفة للتوعية والتثقيف الجنسيين في المدن والمداشر على حد سواء. ألم تناضل النساء الغربيات طويلاً من أجل تحقيق هذا المكسب الذي يعتبر عصب الثورة الجنسية في سنوات السبيعنيات؟ فإلى حدود سنة 1972 لم يكن بمقدور الفتيات في فرنسا الحصول على حبوب منع الحمل مثلاً.
في مقابل هذا التسامح هناك في نفس الوقت نزوع قوي إلى رفض الحديث عن الجنس في المجال العام سواءً في التليفزيون أو الأدب على سبيل المثال كموضوع للنقاش والتحليل. فعندما كتب محمد شكري رواية "الخبر الحافي" عانى من النبذ لسنوات طويلة ولم يرد له الإعتبار إلا بعد سنة 1999؛ فقد ظهر كتابه كالعنقاء من رماد التجاهل والمنع وأصبح متاحاً في المكتبات بعدما انقرض بقرار سياسي لم يستطع أن يتعايش مع تلك الحميمية المفرطة التي وصف بها الكاتب علاقاته الجنسية المتشعبة منذ حداثة سنه. لهذا السبب يمكن فهم نبذ محمد شكري بأنه نوع الانتقام من شخص حاول كسر مقولة "المجتمع الطاهر" الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ ويذهب الناقد الادبي المغربي صلاح نتيج إلى أن المجتمع المغربي يقبل " بأن تكون هناك دعارة في الشوارع ولكن لا [ي]قبل أن تقوم شخصية أدبية بممارسة البغاء. فالبغاء في الشارع واقع أما البغاء في الأدب فهو قضية". فالبغاء، كممارسة جنسية تفضح وجود علاقات جسدية خارج إطار الزواج، حقيقة واقعية يتم التعامل معها على ذلك الاساس لأنها جزء من المعيش اليومي الذي من كثرة ابتذاله يصبح عادياً ولا يسترعي الانتباه. لكن بمجرد أن نقل شكري هذا الموضوع إلى المستوى الأدبي فإنه حوله إلى قضية شوشت المفهوم المنغرس في المخيال الجمعي عن النقاء والطهارة والصفاء الملائكي للمجتمع على المستوى الجنسي.
فعندما اقتنص محمد شكري واقتحم ثيمة الجنس في ذلك الوقت لم يعبر عن ذاته فقط بل استطاع اختزال جيل بكامله في تلك العلاقة مع الجسد وعبر الجسد مع السلطة في كل تجلياتها سواء في عهد الاستعمار أو في عهد الاستقلال. وربما من نتائج هذه الطهرانية هو وصم بعض المنتقدين للمجتمع بالنفاق والتناقض والانفصام. فهو متسامح مع الممارسات الجنسية المنتشرة بشكل سري ولكنه من جهة ثانية يرفض النقاش حول الجنس بشكل مفتوح لأن وراء رمزية الجنس تتوارى تابوهات وعلاقات سلطوية يهدد كسرها الهرمية السائدة في المجتمع. فكرة الحياء كقيمة أخلاقية تتحول إلى سلاح ذو حدين عندما توظف سياسياً فيصبح كل خرق لما يفترض الحياء اعتداء على المقدسات التي يحددها من يملكون سلطة تحديد المواقف التي تستوجب الحياء وغير ذلك. لذلك فكل محرم يجلله الحياء وتكثر حوله التابوهات مما يمس جوهر الحرية الفردية ويسلب الناس حقهم في التفكير والاختيار الحر. ولا يمكن فهم هذا النزوع إلا في إطار "التداخل بين الثقافي والسياسي" كما تقول المؤرخة Florence Rochefort ولاحاجة للتذكير هنا بأطروحة ميشيل فوكو في كتابه “الانضباط والعقاب” (١٩٧٥) عن العلاقة بين السلطة والجسد.
يقول الملك الراحل، الحسن الثاني، في معرض حديثه عن الحداثة، في كتابة ذاكرة ملك "إذا كان المقصود بالحداثة القضاء على مفهوم الأسرة، وعلى روح الواجب إزاء الأسرة، والسماح بالمعاشرة الحرة بين الرجل والمرأة، والإباحية في طريقة اللباس مما يخدش مشاعر الناس، إذا كان هذا هو المقصود بالحداثة، فإني أفضل أن يعتبر المغرب بلداً يعيش في عهد القرون الوسطى، على ألا يكون حديثا" (ذاكرة ملك، ص: 147). بالنسبة للملك الراحل الحسن الثاني الحرية الجنسية جزء من الحداثة التي نبذها لأن الحداثة، بهذا المفهوم السلبي، تهدد بالقضاء على الأسرة والإحساس بالواجب؛ وبالتالي لا حاجة للمغاربة بها؛ فالأفضل للمغاربة أن يعيشوا في القرون الوسطى من أن يروا أسرهم تتفكك بسبب الإباحية والتمرد اللذان سيكونان نتيجة طبيعية لها. لم يقدم الملك الراحل بذكائه المعهود تعريفاً لمفهوم الحداثة (اكتفى بمعنى سلبي فقط) كما أنه لم يبين أي أسرة يقصد؛ الأسرة الصغيرة المكونة من الزوجين والأبناء، أو الاسرة الكبيرة المكونة من الشعب والمخزن. هذا الكلام يبين أن نقاش الحرية الفردية يخفي وراءه نقاشاً أعمق يتعلق بعلاقات السلطة في المجتمع. التحكم في الجسد يؤدي بلا شك في الأخير إلى التحكم في العقول وفي طريفة تفكير وتصرف الناس لأن اللباس "الخادش" والعلاقات الجنسية الحرة تهدد رمزية السلطة بنفس الطريقة التي يهدد بها الأدب هذه الرمزية بما يتيحه من إمكانيات أكثر للتأويل.
يعتبر بعض المتدخلين هذا النقاش مفتعلاً بامتياز، أولا ًلأنه لا ينبع من حاجة مجتمعية إذ إنه رغم أن الممارسة الجنسية بين الاشخاص غير المتزوجين مجرمة قانونياً(de jure) إلا أنها محللة فعلياً (de facto). ثانياً، لأنه يعبر عن مطلب فئوي لشريحة اجتماعية مزدهرة اقتصادياً ومنقطعة، على الاقل في الوقت الراهن، ثقافياً عن المجتمع الذي "تنتمي" إليه نظراً لمستواها التعليمي المرتفع وانخراطها الكلي في الثقافة الكونية، أو على الأقل هذا ما تعتقده، وتوقها إلى نوع من "الغربنة" التي تقاومها فئات أخرى. ثالثاً لأن عدداً كبيراً ممن يعتبرون أنفسهم علمانيين متناقضين مع أنفسهم(خاصة في الأحزاب السياسية والإعلام)؛ فلا يمكن التغاضي عن التناقض بين الدعوة إلى الحرية الجنسية وممارسة الحريات الفردية كحق مقدس والوقوف في نفس الوقت في الخندق المضاد لحركة 20 فبراير والوقوف بالمرصاد ضد الدعوات الاصلاحية الحقيقية في المجال السياسي والاقتصادي بدعوى محاربة الظلاميين الذين لم يشكلوا أبداً عصب الحركة في الأيام الأولى لولاداتها. ففي نظر هؤلاء لا يمكن محاربة حركة وطنية شعبية تدعو إلى دمقرطة البلاد، كما فعل الصحافي الآنف الذكر، وفي نفس الوقت التدثر بعباءة "المصلح" الجنسي إلا إذا كان الانسان انتقائياً أو يعيش نوعا من الانفصام.
ففي نظر هذه الفئة من المغاربة هناك أولويات أكثر استعجالاً من الحديث عن الحرية الجنسية. فانتشار الأمية (تتراوح فيه نسبة الامية الأبجدية بين 40% و30%، أما الأمية الوظفية حسب تعريف Gray فمرتفعة جداً) والهوة الشاسعة التي تفصل بين الفقراء والأغنياء، والتي تتسع باطراد، تجعل النقاشات الفضفاضة كنقاش التحرر الجنسي ترفاً يخلط الأوراق ويدفع باتجاه استغفال الناس وحرفهم عن طرح الأسئلة الحقيقية التي تهم تحديد مصيرهم كمجتمع قبل-ديمقراطي يرنو إلى التحرر وكسر أغلال الاستبداد السياسي والاقتصادي والطبقي. فالمجتمع المغربي يعيش أزمات حقيقية على مختلف الأصعدة. ويذكرون منها على سبيل المثال: ضرورة الحد من سلطة المخزن، وضع حد لاستغلال النفوذ، فرض ثقافة المسؤولية على المسؤولين السياسيين والاقتصاديين الذين لا يتورعون في توظيف سلطاتهم الواسعة للاغتناء على حساب الطبقات الأخرى، ثم رد الاعتبار للتعليم العمومي وإعادة ثقة المغاربة إلى منظومتهم الصحية. ومن القضايا الاكثر إلحاحاً على المجتمع المغربي أيضاً صون كرامة المواطن في وجه الأجهزة الادارية ووضع حد لثقافة الزبونية والرشوة وإصلاح قطاع العدالة. والأهم من هذا كله إعادة الآدمية إلى الانسان المغربي ومعاملته كمواطن بالمعنى الحقيقي للمواطنة. فهذه المطالب، في نظرهم، شعبية وتنبع من حاجة حقيقية تهم أغلب مكونات النسيج الاجتماعي، ويمكن للمجتمع أن يتجاوب معها بشكل سريع وتكون نتائجها مضمونة للجميع، على عكس الدعوات "المستفزة" كالتي تدعو إلى تقنين استهلاك المخدرات على غرار بعض البلدان الاوروبية أو الإفطار علانية في شهر رمضان، كما تدعو إلى ذلك حركة "مالي".
لكن منطق الحقوقي المتشبع بثقافة حقوق الإنسان كقيم كونية يختلف عن منطق الفاعل الاجتماعي والسياسي اللذين يدرسان حسابات الربح والخسارة سياسياً وأثر المواقف التي يتخذونها على مستقبلهم السياسي. لذلك فالحقوقيون المغاربة، وخاصة المنضوون تحت لواء الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، المعروفة بدفاعها الحقيقي عن حقوق الإنسان بمفهومها الكوني ووقوفها في خندق الديمقراطيين دون الدخول في مساومات سياسية عندما يتعلق الأمر بأي حق ومهما تكن الضحية، فإن حقوق الانسان كل كامل لا تقبل التجزئ أو الانتقائية. فقد نظمت الجمعية ندوة بالرباط المشار إليها أعلاه تحت عنوان "الحريات ودور الحركة الحقوقية في المغرب" وفي مداخلتها أكدت رئيسة الجمعية المغربية لحقوق الانسان أن هناك انتهاكات كثيرة لحقوق المغاربة كحق المعتقد وحق الممارسة الجنسية وغيرها من الحقوق التي يجب صيانتهما كحقوق أساسية لا تقبل الانتقائية. فخديجة الرياضة أكدت غير ما مرة أن حقوق الانسان لا تعني الفوضى إذ لابد من تقنين ممارستها كما هو معمول به في جميع البلاد الديمقراطية؛ فالأصل هو التمتع بهذه الحقوق وضمان ممارستها وليس منعها.
موضوع الحرية الجنسية موضوع حقوقي بامتياز يعكس مدى نضج المجتمع وقدرته على التعايش مع حرية الأفراد في إطار القانون. فليس سهلاً للأوصياء على المجتمعات أن يتعايشوا مع أناس ناضجين لا يحتاجون إلى ضوابطهم الاخلاقية والقانونية لتحدد لهم قواعد السلوك في مجتمع حر ومسئول في نفس الآن. فالحرية تجلب مسؤولية ممارستها لأن المسؤولية تصبح منغرسة في الإنسان كسلوك وكطريقة حياة ولكن النقاش الدائر في المغرب حالياً يتجاوز الموضوع الظاهر ليعكس معركة قيم بين من يرون الواقع كما هو ويحاولون أقلمة القوانين والأنظمة لتحمي حقوق الناس وبين من يعيشون حالة إنكار (state of denial) بدعوى الدفاع عن الأخلاق والثوابت التي تلفها الكثير من "الحشومة"، بلغة المغاربة، والتي تتجلى أهم مظاهرها في كثرة المسكوت عنه في المجتمع على مستويات عدة ومعقدة تؤكد في المحصلة أن البقاء للذين يستطيعون قبول نضج مجتمعاتهم والتأقلم مع تطورها وليس للذين يحنون إلى الماضي.
ولنا عودة إلى ردود فعل الاسلاميين في مقال مقبل.